حواشي الهداية-الحاشية: 27
قال رحمه الله: وبقيت قريش ترهب الاعتداء على النبي صلى الله عليه وآله لنصرة أبي طالب له والدفاع عنه وحمايته فبقيت في معزل عن النبي صلى الله عليه وآله وعلى أبي طالب وبني هاشم بشتى الوسائل وكان من جملة تلك الوسائل المقاطعة التامة بينها وبين بني هاشم بترك المبايعة والمشاراة والزواج وغير ذلك وكتبوا وثيقة وعلقوها في جوف الكعبة واضطر بنو هاشم أن يدخلوا شعب أبي طالب لحماية أنفسهم وحماية النبي وقد عانوا من ذلك أشد المعاناة من الأسى والضيم والأذى وقد شملت القطيعة الكبار والصغار حتى أجهدوا ودامت القطيعة ثلاث سنوات إلى أن أظهر الله أمره وفسدت الوثيقة بأن يسلط الله عليها الأرضة وانتصر الحق. انتهى. ص 11 – س 4.
بيان: الرهبة الخوف والفزع ورهب جانبه خافه.(1) وبشتى الوسائل أي بمختلف الأسباب الموصلة إلى المراد وأشياء شتى أي مختلفة قال تعالى(وَأنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى)(2) أي مختلف وقال تعالى (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)(3) أي لمختلف لمتفرق. والوسائل جمع وسيلة وهي كلّ ما يتحقَّق به غرض معيّن، يقابلها غاية(4) و وسائل الرَّاحة: أسبابها. وترك المبايعة والمشاراة أي البيع والشراء. والجوف من كل شيء باطنه الذي يقبل الشغل والفراغ والجمع أجواف.(5) وفي النبوي لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.(6) وجوف الكعبة باطنها. والشعب مر بيناه في ص 8 – س 5. والضيم الظلم أو الإذلال ونحوهما والجمع ضيوم.(7) والأرضة بالتحريك دودة بيضاء شبه النملة تظهر في أيام الربيع.(8) تعيش في مستعمرات كبيرة وتأكل الخشب والحبوب ونحوهما(9) وفي الأمثال “أفسد من الأرضة” لمن يعرف بفساده.
وفي المروي اجتمعت قريش في دار الندوة وكتبوا صحيفة بينهم أن لا يؤاكلوا بني هاشم ولا يكلموهم، ولا يبايعوهم، ولا يزوجوهم، ولا يتزوجوا إليهم، ولا يحضروا معهم حتى يدفعوا إليهم محمدا فيقتلونه، وإنهم يد واحدة على محمد يقتلونه غيلة أو صراحا، فلما بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ودخلوا الشعب وكانوا أربعين رجلا، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم والركن والمقام إن شاكت محمدا شوكة لأثبن عليكم يا بني هاشم، وحصن الشعب، وكان يحرسه بالليل والنهار، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه، ورسول الله صلى الله عليه وآله مضطجع، ثم يقيمه ويضجعه في موضع آخر فلا يزال الليل كله هكذا، ويوكل ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار فأصابهم الجهد، وكان من دخل مكة من العرب لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئا ومن باع منهم شيئا انتهبوا ماله، وكان أبو جهل والعاص بن وائل السهمي و النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات التي، تدخل مكة، فمن رأوه معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئا، ويحذرون إن باع شيئا منهم أن ينهبوا ماله، وكانت خديجة رضي الله عنها لها مال كثير فأنفقته على رسول الله صلى الله عليه وآله في الشعب، ولم يدخل في حلف الصحيفة مطعم بن عدي بن نوفل ابن عبد المطلب بن عبد مناف، وقال: هذا ظلم، وختموا الصحيفة بأربعين خاتما ختمها كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه، وعلقوها في الكعبة، وتابعهم على ذلك أبو لهب، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يخرج في كل موسم فيدور على قبائل العرب، فيقول لهم: تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم، وثوابكم الجنة على الله، و أبو لهب في أثره فيقول: لا تقبلوا منه، فإنه ابن أخي وهو – كذاب ساحر، فلم يزل هذا حالهم، وبقوا في الشعب أربع سنين، لا يأمنون إلا من موسم إلى موسم، ولا يشترون ولا يبايعون إلا في الموسم، وكان يقوم بمكة موسمان في كل سنة. موسم العمرة في رجب، وموسم الحج في ذي الحجة، فكان إذا اجتمعت المواسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون، ثم لا يجسر أحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني، وأصابهم الجهد وجاعوا، وبعثت قريش إلى أبي طالب: ادفع إلينا محمدا حتى نقتله، ونملكك علينا،
فقال أبو طالب رضي الله عنه قصيدته اللامية يقول فيها:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم * وقد قطعوا كل العرى والوسائل
ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب * لدينا ولا يعني بقول الا باطل
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطوف به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
كذبتم وبيت الله يبزى محمد * ولما نطاعن دونه ونقاتل
ونسلمه حتى نصرع دونه * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد * وأحببته حب الحبيب المواصل
وجدت بنفسي دونه وحميته * ودارأت عنه بالذرى والكواهل
فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها * وشيئا لمن عادى وزين المحافل
حليما رشيدا حازما غير طائش * يوالي إله الحق ليس بما حل
فأيده رب العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير باطل
فلما سمعوا هذه القصيدة آيسوا منه، وكان أبو العاص بن الربيع – وهو ختن رسول الله – يأتي بالعير بالليل عليها البر والتمر إلى باب الشعب، ثم يصيح بها فتدخل الشعب فيأكله بنو هاشم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” لقد صاهرنا أبو العاص فأحمدنا صهره، لقد كان يعمد إلى العير ونحن في الحصار فيرسلها في الشعب ليلا ” ولما أتى على رسول الله في الشعب أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة وظلم، وتركت ” باسمك اللهم ” ونزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره بذلك، فأخبر رسول الله أبا طالب، فقام أبو طالب ولبس ثيابه ثم مشى حتى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه، فلما أبصروه قالوا: قد ضجر أبو طالب، وجاء الآن ليسلم ابن أخيه، فدنا منهم وسلم عليهم فقاموا إليه وعظموه وقالوا: قد علمنا يا أبا طالب أنك أردت مواصلتنا، والرجوع إلى جماعتنا، وأن تسلم ابن أخيك إلينا، قال: والله ما جئت لهذا، ولكن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله تعالى أخبره أنه بعث على صحيفتكم القاطعة دابة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور، وترك اسم الله، فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقا فاتقوا الله وارجعوا عما أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرحم وإن كان باطلا دفعته إليكم، فإن شئتم قتلتموه، وإن شئتم استحييتموه، فبعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة وعليها أربعون خاتما، فلما أتوا بها نظر كل رجل منهم إلى خاتمه ثم فكوها فإذا ليس فيها حرف واحد إلا ” باسمك اللهم ” فقال لهم أبو طالب: يا قوم اتقوا الله، وكفوا عما أنتم عليه، فتفرق القوم ولم يتكلم أحد، ورجع أبو طالب إلى الشعب.(10)
وفي بيان المزبور: الميرة الطعام. ويبزى أي يقهر ويغلب. ودارأت أي دافعت. والذرى: أعلى الشيء أراد به الرؤوس ففي المعاني ذُروة : (اسم) الجمع : ذُرُوات و ذُرْوات و ذُرًى ذُرْوَةٌ، ذِرْوَةٌ الذُّرْوَة: أعلَى الشّيء وقمَّته ذُرْوة الجبل: قمّته، ذُرْوة الجمل: سنامه، ذُرْوة الشّرف: أرقى منازلِه، بلغ ذُرْوة الإنتاج: أعلى معدّلِه.(11) والكواهل جمع الكاهل وهو مُقَدَّمُ أعْلَى الظَّهْرِ مما يَلي العُنُقَ وهو الثُّلُثُ الأَعْلَى، وفيه سِتُّ فِقَرٍ، أو ما بين الكَتِفَيْنِ، أو مَوْصِلُ العُنُقِ في الصُّلْبِ.(12) و المماحلة المماكرة والمكايدة والسعاية والمجادلة قال في اللسان المماحلة: المماكرة والمكايدة، ومنه قوله تعالى: شديد المحال.(13) وفيه قال ابن الأنباري: سمعت أحمد بن يحيى يقول: المحال مأخوذ من قول العرب محل فلان بفلان أي سعى به إلى السلطان وعرضه لأمر يهلكه، فهو ماحل ومحول، والماحل: الساعي، يقال: محلت بفلان أمحل إذا سعيت به إلى ذي سلطان حتى توقعه في ورطة ووشيت به.(14) وفي المعاني ماحلَ يماحل ، مِحالاً ومماحلةً ، فهو مُماحِل ، والمفعول مُماحَل و مَاحَلَ صَاحِبَهُ : جَادَلَهُ.(15)
أسد الله بن حسين الرجا
———————
1- راجع معجم المعاني.
2- طه : 53
3- الليل : 4.
4- راجع معجم المعاني.
5- راجع معجم النعاني.
6- الانتصار – العاملي – ج 3 – ص 174.
7- راجع معجم المعاني.
8- لسان العرب – ابن منظور .
9- راجع معجم المعاني.
10- راجع إعلام الورى بأعلام الهدى – الشيخ الطبرسي – ج 1 – الصفحة 125. وراجع بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 19 – ص 1.
11- راجع معجم المعاني.
12- راجع القاموس المحيط – الفيروز آبادي – ج 1 – ص 1055.
13- لسان العرب – ابن منظور – ج 11 – ص 619.
14- لسان العرب – ابن منظور – ج 11 – ص 618.
15- راجع معجم المعاني.