حواشي الهداية-الحاشية 20
قال رحمه الله: فلا بد أن يكون نفس الرسول كما جعله الله كذلك قال تعالى (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) . انتهى. ص 9 ـ س 11 ـ 12 ـ 13.
بيان: المذكور شطر آية المباهلة المعروفة ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين).(1) والمباهلة الملاعنة بدعاء كل طرف على الآخر بالهلاك والدمار وباهل بعض بعضا أي تلاعنوا واستنزلوا لعنة الله على الظالم منهم وحاصل المباهلة كما في الإرشاد: أنه لما انتشر الإسلام بعد الفتح وما وليه من الغزوات المذكورة وقوي سلطانه، وفد إلى النبي صلى الله عليه وآله الوفود، فمنهم من أسلم ومنهم من استأمن ليعود إلى قومه برأيه عليه السلام فيهم وكان في من وفد عليه أبو حارثة أسقف نجران في ثلاثين رجلا من النصارى، منهم العاقب والسيد وعبد المسيح، فقدموا المدينة وقت صلاة العصر، وعليهم لباس الديباج والصلب، فصار إليهم اليهود وتساءلوا بينهم فقالت النصارى لهم: لستم على شئ، وقالت لهم اليهود. لستم على شئ، وفي ذلك أنزل الله سبحانه: (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ…) إلى آخر الآية. فلما صلى النبي صلى الله عليه وآله العصر توجهوا إليه يقدمهم الأسقف، فقال له: يا محمد، ما تقول في السيد المسيح؟ فقال النبي عليه وآله السلام: (عبد لله اصطفاه وانتجبه) فقال الأسقف: أتعرف له – يا محمد – أبا ولده؟ فقال النبي عليه وآله السلام. (لم يكن عن نكاح فيكون له والد) قال: فكيف قلت. إنه عبد مخلوق، وأنت لم تر عبدا مخلوقا إلا عن نكاح وله والد؟ فأنزل الله تعالى الآيات من سورة آل عمران إلى قوله: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين﴾ فتلاها النبي صل الله عليه وآله على النصارى، ودعاهم إلى المباهلة، وقال: (إن الله عز اسمه أخبرني أن العذاب ينزل على المبطل عقيب المباهلة، ويبين الحق من الباطل بذلك) فاجتمع الأسقف مع عبد المسيح والعاقب على المشورة، فاتفق رأيهم على استنظاره إلى صبيحة غد من يومهم ذلك.
فلما رجعوا إلى رحالهم قال لهم الأسقف. انظروا محمدا في غد، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنه على غير شيء.
فلما كان من الغد جاء النبي عليه وآله السلام آخذا بيد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين بين يديه يمشيان وفاطمة – صلوات الله عليهم – تمشي خلفه، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم. فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله قد أقبل بمن معه، سأل عنهم، فقيل له: هذا ابن عمه علي بن أبي طالب وهو صهره وأبو ولده وأحب الخلق إليه، وهذان الطفلان ابنا بنته من علي وهما من أحب الخلق إليه، وهذه الجارية بنته فاطمة أعز الناس عليه وأقربهم إلى قلبه.
فنظر الأسقف إلى العاقب والسيد وعبد المسيح وقال لهم: انظروا إليه قد جاء بخاصته من ولده وأهله ليباهل بهم واثقا بحقه، والله ما جاء بهم وهو يتخوف الحجة عليه، فاحذروا مباهلته، والله لولا مكان قيصر لأسلمت له، ولكن صالحوه على ما يتفق بينكم وبينه، وارجعوا إلى بلادكم وارتؤوا لأنفسكم، فقالوا له: رأينا لرأيك تبع، فقال الأسقف: يا أبا القاسم إنا لا نباهلك ولكنا نصالحك، فصالحنا عل ما ننهض به.
فصالحهم النبي صلى الله عليه وآله على ألفي حلة من حلل الأواقي قيمة كل حلة أربعون درهما جيادا، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك، وكتب لهم النبي صل الله عليه وآله كتابا بما صالحهم عليه، وكان الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من عند محمد النبي رسول الله لنجران وحاشيتها، في كل صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق، لا يؤخذ منه شئ منهم غير ألفي حلة من حلل الأواقي ثمن كل حلة أربعون درهما، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك، يؤدون ألفا منها في صفر، وألفا منها في رجب، وعليهم أربعون دينارا مثواة رسولي مما فوق ذلك، وعليهم في كل حدث يكون باليمن من كل ذي عدن عارية مضمونة ثلاثون درعا وثلاثون فرسا وثلاثون جملا عارية مضمونة، لهم بذلك جوار الله وذمة (محمد بن عبد الله) ، فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتي منه بريئة. وأخذ القوم الكتاب وانصرفوا. انتهى(2)
و في المروي قال النبي ( صلَّى الله عليه و آله ) : والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.(3)
والحلة في القاموس : بالضم إزار ورداء برد أو غيره ولا تكون حلة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة. انتهى.(4) وفي كشف اللثام عن أبي عبيد: الحلل برود اليمن، والحلة إزار ورداء، ولا تسمى حلة حتى تكون ثوبين وفيه عن النهاية الأثيرية: الحلة واحدة الحلل، وهي برود اليمن، ولا تسمى حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد. وعن مصباح المنير: الحلة بالضم لا تكون إلا ثوبين من جنس واحد. انتهى .(5)
والأواقي كما في النهاية : جمع الأوقية بضم الهمزة وتشديد الياء اسم لأربعين درهما ووزنه أفعولة، والألف زائدة، وفي بعض الروايات ” وقية ” بغير ألف وهي لغة عامية والجمع الأواقي مشددا، وقد يخفف. انتهى.(6) وفي المكاتيب: حلل الأواقي: أي حلة تقدر قيمتها بأوقية، ويشعر هذا التركيب أن في نجران تصنع حلل قيمتها متفاوتة، فشرط (صلى الله عليه وآله) كون قيمتها أوقية. انتهى.(7)
واضطرمت النار: التهبت. واستأصل الشجرة: اقتلعها من أصلها واستأصلهم الله أهلكهم وأزالهم من أصلهم.
ومقام النفسية في الآية بين وهو من أقوى ما يتمسك به لإثبات أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام عمن سواه من الخلق سوى الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله.
أسد الله بن حسين الرجا
———————
1- آل عمران : 61.
2- الإرشاد – الشيخ المفيد – ج 1 – ص 166- 197 – 168- 169.
3- بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 21 – ص 281.
4- القاموس المحيط – الفيروزابادي – ج 3- ص 395.
5- كشف اللثام – الفاضل الهندي – ج 11 – ص 306.
6- النهاية في غريب الحديث – ابن الأثير – ج 5 – ص 217.
7- مكاتيب الرسول – الأحمدي الميانجي – ج 3 – الصفحة 159.