مناقشة استدلال المانعين عن العمل بخبر الواحد من طريق ٲخبار المنع.
تعرّض الشّيخ (رحمه الله) في رسائله المباركة لاستدلال المانعين عن العمل بخبر الواحد بجملة من الأخبار ـ راجع فرائد الأصول/ ج 1/ ص 163- رادًّ استدلالهم بمتين من القول وفي طول ذلك صقلاً للعقول وشحذاً للهمم طلب منّا أستاذنا المكرّم (دام عزّه) أن نكتب وجيزة نحاول من خلالها ردّ استدلال المانعين لا بما في رسائل الشّيخ (رحمه الله) وهذا ما سنحاول فعله مع التّلبس بمسانخة جوابيّة في الجملة لا ينفك عنها الجواب جرياً على الأصول وذلك على ضوء تقسيم الرّسائل لتلك الأحاديث دفعاً لتوهم مطّلع بحث الرّسائل دون غيرها وإن كان في تقسيمها كلام حسب ظاهر بعض الفحول من مفروضيّة زيادة بعض الأقسام أو رجوع بعضها لبعض وهذا ما سيبان بعضه إجمالاً في قابل الكلام وفي ذلك نقول بعد التّوكل على مدبّر الأمور:
قسّمت رسائل الشّيخ(رحمه الله) أخبار المانعين إلى طائفتين:
إحداهما: ما ينهى عن العمل بغير معلوم الصّدور عن المعصوم(عليه السّلام) كحديث بصائر الدّرجات (ما علمتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموه فردوه إلينا). وسائل الشّيعة/ ج 27/ ص 120.
والثّانية: ما يسمّى على ألسن العلماء بأخبار الطّرح أو العرض على الكتاب وهي منشرحة إلى ثنتين:
إحداهما: ما يمنع عن العمل بما يخالف الكتاب ومثالها ما صحّ عن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ما خالف كتاب الله فليس من حديثي) أو (لم أقله). راجع بحار الأنوار/ ج 2/ ص 242 مع اختلاف يسير في العبارة. وقول أبي الحسن الرّضا (عليه السّلام) (ولا تقبلوا علينا خلاف القرآن). بحار الأنوار/ ج 2 / ص 250.
والثّانية: ما يمنع عن العمل بما لا يوافق الكتاب كنبويّ:(ما جاءكم عنّي ممّا لا يوافق القرآن فلم أقله). راجع الكافي/ ج 1/ ص 69 مع اختلاف يسير. و قول أبي جعفر الباقر(عليه السّلام) وأبي عبد الله الصّادق(عليه السّلام)(لا يصدق علينا إلّا ما يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه). وسائل الشّيعة / ج 27 / ص 123.
وردّ الأولى بجملةٍ :
منها: أنّ البحث في إثبات حجّيّة خبر الواحد بحيث يصلح للدّليليّة بعد ثبوت الحجّيّة وأخبار هذه الطّائفة كخبر البصائر وغيره من خبر الواحد الّذي لم تثبت حجّيّته بعد حتّى تصلح للدّليليّة على مدلولها.
ومنها: أنّها من أخبار الآحاد الّتي لا اعتبار لها عند المستدلّ فكيف يستدلّ به على عدم ثبوت الحجّيّة لغيرها المسانخ لها في وحدة الخبر وفي فرض كون استدلاله بها من باب إلزام الخصم لقولنا بحجّيّة خبر الواحد فهو مردود بكونها من ضعاف الأسانيد الّتي لا اعتبار لها عندنا.
ومنها: أنّ هذه الأخبار وعلى رأسها خبر البصائر المذكور في عرض الأخبار غير المعلومة وليس من المعلومات ومع كون الخبر ظنّياً فالعمل بمدلوله نافٍ لحجّيّته فهو ينفي نفسه بنفسه.
ومنها: أنّه مع فرض التّغاضي عمّا مرّ واعتبارها معتبرة صحيحة السّند فلا يمكن التّمسك بها لمعارضتها بما دلّ على حجّيّة أخبار الآحاد ومع كون أحاديث هذه الطّائفة مطلقة أو عامّة يلزم تقيدها أو تخصيصها بخبر غير العادل وذلك مقتضى الجمع مع الأحاديث المخالفة لإطلاقها أو عمومها بحمل المطلق على المقيّد والعام على الخاص. وغير ذلك مما يترك للمطولات.
وأمّا الثانية فيمكن محاكمتها – من طريقين أحدهما وهو مسلوك هذه الوجيزة جمع ردّ طائفتيها بواحد بحمل ما لا يوافق على ما يخالف ومحاسبة المسألة من جهة ما يخالف والثّاني تفكيك حساب كلّ طائفة على حدة في فرض التّنزّل أو عدم القول بحمل ما لا يوافق على ما يخالف –
بأن يقال: ما المراد بما لا يوافق؟ أ هو ما خالف الدّلالة الكتابيّة بأن يتعرّض الكتاب لمسألة ويخالفه الحديث في حكمها أم المراد ما يعمّ حالة عدم تعرّض الحديث لما تعرّضت له الدّلالة الكتابيّة فيكون عدم الموافقة حينها من قبيل السّالبة بانتفاء الموضوع؟
والرّاجح الأوّل وعليه غير واحد من الأعلام فقضيّة ما لا يوافق الكتاب وإن كانت من السّوالب المنطقيّة الأعمّ من السّالبة بانتفاء الموضوع أو المحمول إلّا أنّ العرف يفهم منها الثّاني دون الأوّل بأن تكون هنالك دلالة كتابيّة وتخالف لا أن لا تكون أصلاً فلا توافق ولسان الشّارع لسان العرف وهو – أعني العرف – يحمل عدم الموافقة على المخالفة عادةً ويشهد له تعبير الشّارع عمّا يقابل موافقة الكتاب بالمخالفة فعن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: يا أيّها النّاس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته و ما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله. انتهى. بحار الأنوار/ ج 2 / ص 242.
فجعل المخالفة في قبال الموافقة بالتّالي لنا محاسبة المسألة من جهة ما يخالف دون تكبّد عناء البحث فيما لا يوافق فالمراد به ما يخالف لا غير وأخبار المنع عما يخالف لا تدل على طرح ما لا يوافق بمعنى السّالبة بانتفاء الموضوع أي ما لا مضمون له في الكتاب من أخبار تتعلق بغير ما دلّل عليه فخرجت عن المنع ودعوى اندراج كلّ واقعة ضمن عمومات كتابيّة يستفاد منها حكمها فتندرج تحت المنع في فرض المخالفة مردودة
أوّلاً: بعدم المخالفة في مثل موارد الجمع العرفيّ كتخصيص العام أو تقييد المطلق بشهادة العرف فالخاصّ والمقيّد بمنزلة القرينة على المراد من العام والمطلق وهذا ما يسمّى بباب التّعارض غير المستقر ويشهد له وقوعه في السّنة القطعيّة بالنّظر إلى الكتاب فلو كانت مخالفة لوجب طرحها وهو باطل بالضّرورة فالملاك واحد في المخالفتين ولا يمكن إخراج السّنّة القطعيّة عن لسان أخبار العرض العامّة أو المطلقة مع عدم المخرج.
وثانياً: عدم التّسليم بشمول العمومات الكتابيّة لكلّ واقعة فرعيّة وهو قضيّة غير واحد من الأخبار المرويّة كخبر العيون في بيان حكم ما لا حكم له في الكتاب والسّنّة ومرويّ البصائر والاحتجاج في بيان حكم تعارض الرّوايتين من ردّ ما لا يوجد حكمه في الكتاب والسّنة إلى الأئمة (عليهم السّلام) وهذا الثّاني ممّا أشار إليه الشّيخ(رحمه الله).
فإن قلت: هذا مخالف لضرورة الاستيعاب القرآنيّة الموافقة لـ (وما فرّطنا في الكتاب من شيء) . الأنعام/ آية 38.
قلت: هذا الشّمول المؤكّد وعدم التّفريط المحقّق لا يبعد كونه بملاحظة ما في الظّاهر والباطن الكتابيين وليس لنا إحاطة بالباطن بل ليس لنا إلّا ما شاء الله من الظّاهر فلا يقال بشمول الظّاهر لوحده مع ما ذكر من أحاديث تثبت عدم وجود حكم بعض الوقائع في الكتاب .
ومنه انحصر الكلام في حمل مدلول أحاديث المخالفة فيما يخالف الكتاب لا على نحو التّعارض غير المستقر بل بخلافه – أعني التّعارض المستقر – كلاً كتباين لسان حرّمت الميتة و أحلّت الميتة أو جزئاً كتباين لسان أكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق في العالم الفاسق أي تعارض العامّين من وجه والأوّل لا محيص في مثله من تقديم الكتاب وطرح مخالفه مع أن المستدل على المنع بهذه الطّائفة لا يرتضي نظرها إليه لأنّ التّباين الكلّيّ لا يقع من الوضّاعين إذ لا آخذ به مع المباينة الكلّيّة بل يحملها على المباينة الجزئيّة – مع أنّه لا يبعد احتمال نظرها لمثل موارد التّباين الكلّيّ لأنّ وضع الوضّاعين إياه من المحتملات متصوّرة الوقوع فيمكن أن تكون أخبار المنع ناظرة إلى موارده كما في مثل دعوى النّبوة أو المهدويّة أو الصّلة بهما واتفاق التّصديق بها فقد يمارس المدّعي المصدّق دور تغيير معالم الدّين عند مصدّقيه وفق ما يناسبه ببث ما يغيّرها مع التّوشح بوشاح حجّية لها وقع في القلوب وليس ذلك من الفرد النّادر فما أكثر المدّعين وغير ذلك من صور أخرى يمكن طرحها في الباب – ومع خروج المخالفة غير المستقرّة أعني موارد الجمع العرفيّ عن المباينة الجزئيّة إذ ليست من المخالفة في شيء من حمل العامّ على الخاصّ و المطلق على المقيّد وغير ذلك من محكّم في موارد الجمع ممّا لا يخفى يبقى الكلام في العامّين من وجه وفيه يكون المخالف للقرآن إطلاق الحديث أو عمومه مثلاً لا أصله لذا يسقط إطلاقه أو عمومه في مورد المخالفة خصوصاً لا أصل حجّيّته فيأخذ به في غير مصداق المخالفة بعينه.
هذا كلّه مع معارضة أخبار المنع بطوائف عدّة من الأخبار المجوزة ناهيك عن معارضتها لباقي أدّلة التّجويز والحجيّة من الكتاب وغيره وللكلام تمام ومن الحقّ تعالى حسن الختام.