مشاركة فقهيّة في باب الحلول الشّرعيّة الموسومة في محلّها بـ باب الحيل.
اغترف السّمع منذ حين كلام بعض عن انعدام الحيل في أبواب الفقه عند الإمامية وأنّها لا تعدو واحدة أو ثنتين فقلت خطّاً:
لغةً: الجمع حِيلات و حِيَل و حِوَلٌ وهي الحِذْقُ، وجودة النّظر، والقدرة على دقّة التّصرف في الأُمور ويقال: فلان واسع الحيلة ٲي بارع في الخروج من المآزق، ماهر في تدبُّر أموره.
وفي الاصطلاح على ٲلسن الفقهاء هي ٳعمال سبب محلّل أو محرّم يرتّب حكماً شرعيّاً يريده المحتال.
وباب الحيل من الأبواب الواسعة في الفقه قال شهيد المسالك(قدّس سرّه) في التّوصّل بالحيل: هذا باب واسع في جميع أبواب الفقه.انتهى. مسالك الأفهام/ ج 9 / ص203
وقال جواهريّ الجواهر (قدّس سرّه): المقصد الرّابع في جواز استعمال الحيل وهو باب واسع في الفقه، يختلف باختلاف أذهان الفقهاء حدّة وقصورًا. انتهى / جواهر الكلام / ج 32 / ص 201
وفي روايات العترة الطّاهرة(صلوات الله وسلامه عليهم ٲجمعين)ما يشير ٳلى هذا الباب كروايات التّخلص من الرّبا والزّكاة وبل ومدحت بعضها الحيلة بسمة الفرار من الحرام ٳلى الحلال ففي صحيح ابن الحجّاج قال: ” سألته عن الصّرف إلى أن قال: فقلت له: أشتري ألف درهم ودينارا بألفي درهم، قال: لا بأس، إن أبي كان أجرأ على أهل المدينة مني، وكان يقول هذا، فيقولون: إنما هذا الفرار، لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار، وكان يقول لهم، نعم الشئ الفرار من الحرام إلى الحلال. راجع وسائل الشّيعة/ الباب 6 من ٲبواب بيع الصّرف/ ح 1/ ج 12/ ص566.
وبسمة الٳصلاح وتدارك ما يكاد يبطل كما ورد في الصلاة ” يبطلها فقيه، يحتال لها فيدبرها “. راجع وسائل الشّيعة /باب 29/ من ٲبواب الخلل والواقع في الصلاة /ح 1/ ج / ص .
وقد بحث أساطين علماء الإمامية مسائل الحيل ـ فيما يتخلّص به من الرّبا و بعد نهاية كتاب الطّلاق ومواضع أخرى من أبواب الفقه ـ كمحقّق الشّرائع/ راجع شرائع الٳسلام /ج 2/ص 314.وعلّامة الٳرشاد/راجع ٳرشاد الٲذهان ج 1/ص 379. وشهيد المسالك/راجع مسالك الٲفهام /ج 9/ص 203. ونجفي الجواهر/راجع جواهر الكلام /ج 32/ص 201. وٲردبيليّ المجمع/ راجع مجمع الفائدة والبرهان /ج 8/ص 488. وبحرانيّ الحدائق/ راجع الحدائق النّاضرة/ج 25/ ص 377. وغيرهم منهم ـ أعني الأساطين ـ كذا فعل.
وغرضهم من بحثها تحصيل أسباب يترتّب عليها أحكام شرعيّة ، وتلك الأسباب إمّا أن تكون محلّلة أو محرّمة ونظرهم إلى الأوّلى دون الثّانية وقد أرجع الشّهيد الثّاني(قدّس سرّه) في المسالك ذكرهم لها إلى العرضيّة ليعلم حكمها على تقدير الوقوع.
وقد تعاركت أفكارهم أعني الأفذاذ في حكم الحيل بين مجوز ومانع ومفصّل كل ودليله فمثلاً في الحيل المضافة إلى الرّبا
قال محقّق الشّرائع(قدّس سرّه) :(وقد يتخلّص من الرّبا بأن يبيع أحد المتبايعين سلعته من صاحبه بجنس غيرها، ثمَّ يشتري الأخرى بالثّمن،ويسقط اعتبار المساواة. وكذا لو وهبه سلعته ثمَّ وهبه الآخر، أو أقرضه صاحبه ثمَّ أقرضه هو وتبارءا. وكذا لو تبايعا و وهبه الزّيادة، وكلّ ذلك من غير شرط. انتهى. شرائع الإسلام/ ج 1 / ص 314.
وقال علّامة الإرشاد(قدّس سرّه) في كلامه عن الحيل الرّبويّة: وأن يبيع النّاقص بمساويه من الزّائد ويستوهب الزّيادة.انتهى. إرشاد الأذهان/ج 1/ ص 379.
وقال أردبيليّ المجمع(قدّس سرّه) : وينبغي الاجتناب عن الحيل مهما أمكن، وإذا اضطرّ يستعمل ما ينجيه عند الله ولا ينظر إلى الحيل وصورة جوازها ظاهراً لما عرفت من علّة تحريم الرّبا. انتهى. مجمع الفائدة/ ج 8/ص 488.
فها هنا ثلاثة ٲقوال تمثل الحال في المقام وسيٲتي ما في طول بعضها من بعض ضمن درج الكلام.
وفي مقام البحث عن الصّواب يمكن القول: إنّ المتحايل إمّا أن يعمل في مقام الوصول إلى منشوده سبباً محرّماً أو محلّلا فأن كان الأوّل فلا إشكال في التّحريم للحرمة الثّابتة للسّبب وإن كان فعله مرتّبا لأثر على نقاش في محلّه
وإن كان الثّاني فإمّا أن يكون منصوصاً أو لا فإن كان الأوّل فلا إشكال في الجواز وإن كان الثّاني فقد منعه بعض لأحد وجهين أحدهما:
فقدان القصد فمثلاً في الحيل الموجبة للخروج من الرّبا بيع المساوي وهبة الزّائد لم تقصد الهبة وإنّما الغرض منها التّوصل إلى ما حرّم الله فالقصد لم يكن للهبة بما هي وإنّما القصد تحليل الرّبا وأخذ الزّيادة ومن المعلوم أنّ العقود تابعة للقصود وبه أشكل المحقق الأردبيلي (قدّس سرّه) في المجمع بعد ذكر قول الإرشاد (أن يبيع النّاقص بمساويه من الزّايد ويستوهب الزّيادة. ولا ربا بين الولد ووالده.) قوله: ” وأن يبيع النّاقص الخ ” عطف مثل ما تقدم وإشارة إلى التّخلص عن الرّبا إذا أراد التّفاضل في بيع الرّبويين، مثل إن أراد بيع قفيز حنطة بقفيزين من شعير، أو الجيد بالرّديين وغير ذلك، يبيع المساوي بالمساوي قدراً ويستوهب الزّايد. وهو ظاهر لو حصل القصد في البيع والهبة. انتهى. مجمع الفائدة/ ج 8/ ص 488.
وثانيهما: نقضها الغرض من تشريع الحكم وهو مستمسك الجواهر في المقام بعد ذكر حادثة مسخ معتدي السّبت إذ قال: ولعل من ذلك ما يتعاطاه بعض النّاس في هذه الأزمنة من التّخلص ممّا في ذمته من الخمس والزّكاة ببيع شئ ذي قيمة رديّة بألف دينار مثلاً من فقير برضاه ليحتسب عليه ما في ذمّته عن نفسه، ولو بأن يدفع له شيئاً فشيئاً، ممّا هو مناف
للمعلوم من الشّارع من كون المراد بمشروعيّة ذلك نظم العباد وسياسة النّاس في العاجل والأجل بكفّ حاجة الفقراء من مال الأغنياء، بل فيه نقض للغرض الّذي شرّع له الحقوق، وكلّ شئ تضمّن نقض غرض أصل مشروعيّة الحكم يحكم ببطلانه، كما أومأ إلى ذلك غير واحد من الأساطين، ولا ينافي ذلك عدم اعتبار اطراد الحكمة، ضرورة كون المراد هنا ما عاد على نقض أصل المشروعيّة، كما هو واضح.انتهى/ جواهر الكلام/ ج 32/ ص 202.
وردّ الأوّل: بما في قاعدة تبيعيّة العقود للقصود وعلى التّسليم بها ترد بصريح المسالك قال (قدّس سرّه): ولا يقدح في ذلك كون هذه الأُمور غير مقصودة بالذّات ، والعقود تابعة للقصود ، لأنّ قصد التخلّص من الرّبا إنّما يتم مع القصد إلى بيع صحيح ، أو قرض ، أو غيرهما من الأنواع المذكورة ، وذلك كاف في القصد ، إذ لا يشترط في القصد إلى عقد ، قصدُ جميع الغايات المترتبة عليه ، بل يكفي قصد غاية صحيحة من غاياته ، فإنّ من أراد شراء دار مثلاً ليؤاجرها ويكتسب بها فإنّ ذلك كاف في الصحّة ، وإن كان لشراء الدّار غايات أُخر أقوى من هذه وأظهر في نظر العقلاء. وكذا القول في غير ذلك من أفراد العقود. وقد ورد في أخبار كثيرة ما يدلّ على جواز الحيلة على نحو ذلك.انتهى مسالك الأفهام / ج 3/ ص 332.
وأمّا الثّاني فردّه بعدم اطراد الحكمة وتعمية أصل تعليليّة الحكم أي غرضه العلّيّ فهو من المعمّيات المغيبة التي لا يعلمها إلا الحق تعالى ومن علّم.
وكذا انطباق المنصوص مدارً عليها ـ أعني الحيل ـ فتجويز الشّارع لموارد تجمعها وحدة ملاكيّة معها يومي بعدم نقض الغرض وإلّا عدّ الشّارع ناقضاً لغرضه في تلكم الموارد المجوّزة بلسانه.
وأمّا معتدي السّبت فلا يمكن النّظر لموردهم حكماً وأثراً وتطبيقه على موارد الحيل دون ملاحظة النّصوص المجوزة لموارد تقرب من عدوانهم من حيث الوصول إلى نفس النّتيجة المحذورة دون حيلة كنصوص الرّبا والزّكاة وكذا في مثل تورية الكلام المطابقة للكذب نتيجة فلعلّ الأمر من مختصاتهم وممّا لم يشرّع عندهم وشرّع بعدهم وهو قضية نصوص الحيل.
والقول بأنّ لنصوص عدوان السّبت قضية معارضة تماماً لقضيّة نصوص تجويز الحيل فتتساقط القضيتان فلا قضيّة تجويزيّة لنصوص الحيل.
لعله مردود بأنّ ظاهر النّصوص المجوزة متعلّق بموضوع متأخر زماناً عن موضوع نصوص عدوان السّبت فذاك موضوعه في شريعة وهذا في متأخرة عنها ناسخة لها و على فرض التّسليم بقول القائل يرجع إلى أصالة البراءة تكليفاً والصّحة عقوداً هذا وإن كان الاحتياط حسن على كلّ حال وصاحبه سالم والله العالم.