تعارض العقل والنّقل
دليل العقل من الأدلّة المعتبرة عند طائفة من علماء الإمامية بعد بنائهم أو فرض تسليمهم بالكبرى الأُصوليّة القائلة بكون ما حكم به العقل حكم به الشّرع فيكون حكم العقل دليلاّ شرعيّاً في عرض الكتاب والسّنة ومن تشقيقات ذلك البناء أو التّسليم سؤال يواجه المستنبط للحكم فيما لو تعارض حكم العقل والنّقل فما هو المقدم هنا؟ حكم ذا أم ذاك؟
وفي جوابه خلاف فالذي عليه علمائنا الأخباريّون(قدّست أسرارهم) تقديم حكم الثّاني على الأوّل كما هو صريح أو ظاهر غير واحدٍ منهم كالمحدّث الإستراباديّ في فوائده المدنيّة قال(قدّس سرّه) : (إن تمسّكنا بكلامهم (عليهم السّلام) فقد عُصِمنا من الخطأ , وإن تمسّكنا بغيرهم لم نُعصم منه ) انتهى. الفوائد المدنيّة والشواهد المكّيّة/ ص 295. والمحدّث الجزائريّ( قدّس سرّه) في شرح التّهذيب مستثنياّ من ذلك البديهيّات. راجع غاية المرام في شرح تهذيب الأحكام.
وعلى تفصيل وتفريع عند غيره كما يظهر من كلام المحدّث البحرانيّ(قدّس سرّه) في حدائقه النّاضرة . راجع الحدائق النّاظرة/ ج 1/ ص 132.
وفي المقابل أجاب الأصوليّون من علمائنا(تقدّست أسرارهم) بأجوبة لا تنفك في الجملة عن محاولة جعل الكلام من قبيل السّالبة بانتفاء الموضوع كما هو الحال في رد رسائل الشّيخ (قدّس سرّه) على المحدّث الجزائري(قدّس سرّه) القائل بترجيح النّقل على العقل فأشار الشّيخ (قدّس سرّه) الى استحالة التّعارض بلحاظ القطع المتولّد عنهما إذ قال (قدّس سرّه) (فليت شعري إذا حكم العقل على وجه القطع بشئ كيف يجوز حصول القطع أو الظّنّ من الدّليل النّقليّ على خلافه وكذا لو فرض حصول القطع من الدّليل النقليّ كيف يجوز حكم العقل بخلافه على وجه القطع) انتهى. فرائد الأصول/ ج ا/ ص 38.
وكذا أشار الى عدم معارضة النّقل لأحكام العقل الفطريّ والبديهيّ فقال (قدّس سرّه)( فلا بدَّ في مواردهما من التزام عدم حصول القطع على خلافه ,لأن الأدلّة القطعيّة النظريّة في النّقليّات مضبوطة محصورة ليس فيها شيء يصادم العقل البديهيّ أو الفطريّ) انتهى. فرائد الأصول/ ج 1/ ص 40.
مع أنّ الشّيخ (قدّس سرّه) صرّح بتساقط الحكمين العقليّين المتعارضين مع التّعجّب من توقّف المحدّث البحرانيّ فيهما وإليك قوله(قدّس سرّه) ( وأعجب من ذلك الإستشكال في تعارض العقليّين من دون ترجيح مع أنّه لا إشكال في تساقطهما ) انتهى. فرائد الأصول/ ج 1/ ص 40.
وفي كلامه الأخير نظر بل منع لما سيظهر من عدم إمكان ذلك بلحاظ فعليّة القطع إذ ليس في البين إلّا واحد فكان الحقيق أن تكون الإجابة مسانخة لما أجاب به (قدّس سره)عن تعارض حكم العقل والنّقل وإلا فإن الجواب الأول ينقض الثّاني والثّاني ينقض الأوّل فالأوّل مبني على الاستحالة والثّاني لازمه الإمكان وهو ليس كذلك فتأمل .
اللّهم إلّا أن يكون الشّيخ (قدّس سرّه) رأى الأخباريّ ناظراً إلى الدّليلين العقليّين بما هما لا بلحاظ توليد القطع فحكم بتساقطهما فيرد عليه حينها عدم ملاحظة كلام الأخباري في تعارض العقل والنّقل كذلك وإلّا مع كونه كذلك يصبح إشكاله المزبور لا في محلّه لكونهم حينها لا يلحظون القطعين المتولّدين من المتعارضين – ليرد عليهم استحالة ذلك- بل نفس الدّليلين وهذا ما أشار الى احتماله في كلامهم بعض الأعلام كالسّيّد اليزدي(قدّس سرّه) في حاشية الفرائد. راجع حاشية الفرائد للسّيّد اليزدي/ج 1/ص 111 ـ 119 – 122.
نعم مع كون الأخباري ناظراً الى نفس الدّليلين يرد عليه عدم حكمه بالتّساقط وترجيحه للنّقل على العقل من دون مرجّح إلا أن يكون الأخباري لاحظ مرجّحيّة كون سلوك الطّريق الشّرعي مؤمّن من العقاب عند الخطأ ويرد عليه رجوعه الى حكم العقل الذي فيه الكلام إلّا أن يقال بفطريّة المرجّح .
ولعلّ الأخباري لاحظ الدّليل العقليّ بكونه غير مفيد لقطع يعدّ حجّة لكونه نتاج مقدمات موادّها بعيدة عن الحس فرجّح النّقليّ عليه كما هو صريح ذلك في كلمات المحدّث الأسترابادي(قدّس سرّه). راجع الفوائد المدنيّة/ص 129.
ومع ذلك يرد عليه عدم معقوليّة ذلك في مقام اعتبار العلم من حيث الكشف إذ كيف كيف يطرح المنكشف ويقال بعدم انكشافه حال الانكشاف.
وكيف كان تمكن الإجابة عن السّؤال المطروح بالشق الممكن مما ذكره الشيخ(قدّس سرّه) من عدم معقولية التّعارض دون الوصول إلى نوبة التّساقط التي مرّ ذكر إشكالها فلا يعقل حكمَ الشّرع بحكم يخالف حكمَ العقل على نحو القطع فيهما بمعنى قيام دليل شرعيّ قطعيّ الصدور والدلالة والجهة يثبت حكماً مخالفاً لحكم عقليّ قطعيّ على نحو التّناقض أو التّضاد إذ مع فرض كون أحدهما قطعيّاً كيف يمكن أن يكون الثّاني كذلك فالقاطع بحرمة الشّيء الكذائيّ لا يمكنه أن يقطع بوجوبه حال كونه قاطعاً بحرمته إلّا أن يقال بحرمة شيءٍ ووجوبه معاً وهذا ما لا يقول به عاقل ، إذاً فحاصل كون أحدهما قطعيّاً نفي كون الثّاني كذلك وإلّا لم يكن الأوّل كذلك.
اللّهمّ إلّا أن يكون المراد من التّعارض هنا كون أحد الدّليلين فعليّ القطعيّة والثّاني شأنيّها كما لو قطع المجتهد بالحكم من أحد الدّليلين ثمّ صادف الثّاني الواجد لمقومات القطعيّة ولم يحصل له القطع منه لفرض سبق الأوّل في توليد القطع – وفي صحّة وصفه بالقطعيّة مع سلب أثره تأمل – ولكنّ مثل هذا خارج عن البحث أيضاً كما لا يخفى إذ لا تعارض هنا أصلاً لفرض عدم تحقّق الفعليّة في الشأنيّ حال فعليّة الفعليّ.
والنّتيجة هي عدم وجود تعارض بين حكمٍ شرعيٍّ ثابتٍ بيقين وحكمٍ عقليٍّ قطعيٍّ وذلك لما أسلفنا فيكون السّؤال المطروح عن ترجيح أيّهما لا معنى له إذ لا تعارض ولا ترجيح .
نعم يمكن فرض تعارضٍ صوريٍّ غير مستقرٍّ بين حكم شرعيّ ظنيّ وحكم عقليّ قطعيّ كما لو ثبت الحكم بدليل شرعيّ ظنّيّ – سواء كان الظّنّ متولّداً عن طرفين ظنيّين أي صدوراً ودلالةً كأخبار الأحاد مع ظنيّة الدّلالة أو كان متولداً عن ظنّيّة أحد الطّرفين مع قطعيّة الآخر كما هو الحال في الآيات والرّوايات المتواترة مع ظنّيّة الدّلالة فيهما أو كما في الرّوايات ظنّيّة الصّدور قطعيّة الدّلالة فلا إشكال في غالبيّة الظّنّ على القطع في الصّور المزبورة الّتي يشغل القطع أحد طرفيها لكون النّتيجة تتبع أخصّ المقدَّمتين فيوصف هذا الدّليل بالظّنيّة وقد يحصل ذلك أيضاً من الجهة كما لوكان الدّليل قطعيّ الصّدور والدّلالة ولكنّ الجهة ليست كذلك وذلك بيّن في موارد التّقية وعند ذلك لا إفادة للعلم – وعارض حكماً عقليّاً قطعيّاً وهذا يعني أنّ الحكم قد ثبت عن الشّرع بالظّنّ وثبت عن العقل بالقطع وفي مثل هذا لا إشكال في تقديم القطع على الظّنّ فيقدّم الحكم العقليّ القطعيّ على المعارض الشّرعيّ الظّنّيّ .
ولكن في الحقيقة هذا ليس من التّعارض في شيء فلا تعارض هنا حتّى نتكلّف عناء البحث عن ترجيح من حقّه ذلك بداهة عدم معقوليّة التّصارع بين القطعيّ والظّنّيّ وذلك لكون القطعيّ سالب لروح الظّنّيّ كما يقال مخرج له عن مظلّة الحجيّة فلا حجيّة للظّنّ في قبال القطع وهل يعقل التّعارض بين الحجّة و اللا حجّة؟ كلّا، وتقريبه بما لو قامت البيّنة الشّرعيّة على خلاف علمنا فيقدّم العلم على البيّنة ومثاله لو شهد شاهدان عادلان بأنّ البقعة الكائنة على ثوبي هي دم نجس وأنا أعلم أنّها عصير أحمر فهنا قطعاً أعمل بعلمي وأترك قولهما ولا يعدّ قولهما حجّة .
ووجه عدم حجيّة الظّنّ هنا هو انتفاء شرطيّة جواز العمل به فكل الأدلة الظنيّة مشروطة باحتمال الموافقة للواقع ولا احتمال لها هنا إذ مع فرض احتماليّة المطابقة للواقع في المعارض ـ تجوّزاً ـ للقطع ولو بنسبة قليلة جداً ينتفي ذلك القطع والمفروض كونه كذلك ومع كونه كذلك فهو ملغٍ لاحتماليّة ما سواه بالجملة .
وحاصلُ البحث عدم إمكان تعارض القطعيّ مع القطعيّ مطلقاً فلا يمكن تعارض الدّليل العقليّ مع الدليل النقليّ بقيد القطعيّة فيهما وكذا الدّليل العقليّ القطعيّ مع مثله ,أمّا مع كون أحدهما شأنيّاً أو ظنيّاً فلا تعارض أصلاً ، وللكلام تفريع وتفصيل متروك لمحله، هذا والله العالم وبه تنال المكارم.