النّظريّة والعمليّة المضافة للعقل
قسّم العقل إلى نظريّ وآخر عمليّ وفي بيانهما يقال:
إنّ المراد من العمليّ مدرِك ما ينبغي أن يُعمل أو يترك كحسن العدل وقبح الظُّلم ومن النّظريّ مدرِك ما ينبغي أن يُعلم ككون الكلّ أعظم من جزئه ,وهذا لا يعني أنّ العقل عقلان واقعاً بل هو واحد وإنّما التّعدّد بلحاظ ما يدركه فإن أدرك ما ينبغي أن يفعل سمّي عقلاً عمليّاً وإن أدرك ما ينبغي أن يعلم سمّي عقلاً نظريّاً ولا يخفى رجوع الأوّل إلى الثّاني إذ لا حكم بانبغاء عمل ما ينبغي ولا وانبغاء ترك لعكسه بلا إدراك إزائيّة موضوع الحكم العقليّ الواقعيّة من حسن أو قبح بمعنى أنَّه لا حكم بانبغاء فعل شيء ما إلّا بلحاظ انكشاف حسنه الواقعيّ والعكس بالعكس.
ثمّ إنّ هذا البيان لمعنى العقلين في الجملة مستقى من بيان ضارب في القدم متناثر في كلمات الفلاسفة المتقدمين ففي الخلاصة اللهوتية مثلاً وإن لم تكن بعيدة الفترة ما نصّه: ( وقد يعرض لمدرَكٍ بالعقل أن يكون متجهاً الى العمل أو لا يكون فيحصل باعتبار ذلك العقل النّظريّ والعقل العمليّ لأنّ العقل النّظريّ هو الذي ليس يوجّه ما يدركه إلى العمل بل إلى ملاحظة الحقّ فقط والعقل العمليّ هو الّذي يوجه ما يدركه إلى العمل) انتهى. الخلاصة اللاهوتيّة/ج 2 / ص 353.
ولا يقال: إنّ لصدر الحلقات (قدّس سرّه) بيان مطابق لما ذكر في المراد منهما لما في ثالث الحلقات من قوله :
( يقسم الحكم العقليّ إلى قسمين: أحدهما: الحكم النظريّ وهو إدراك ما يكون واقعاً. والآخر: الحكم العمليّ وهو إدراك ما ينبغي أو ما لا ينبغي أن يقع. وبالتّحليل نلاحظ رجوع الثّاني إلى الأوّل لأنّه إدراك لصفة واقعيّة في الفعل وهي أنّه ينبغي أن يقع وهو الحسن أو لا ينبغي وهو القبح. وعلى هذا نعرف أنّ الحسن والقبح صفتان واقعيّتان يدركهما العقل، كما يدرك سائر الصفات والأمور الواقعيّة، غير أنّهما تختلفان عنها في اقتضائهما بذاتهما جرياً عمليّاً معيّناً خلافاً للأمور الواقعيّة الأخرى.
وعلى هذا الأساس يمكن أن يقال: إنّ الحكم النّظريّ هو إدراك الأمور الواقعيّة التي لا تقتضي بذاتها جرياً عملياً معيّناً، والحكم العمليّ هو إدراك الأمور الواقعيّة التي تقتضي بذاتها ذلك، ويدخل إدراك العقل للمصلحة والمفسدة في الحكم النّظريّ لأنّ المصلحة ليست بذاتها مقتضية للجري العمليّ ويختصّ الحكم العمليّ من العقل بإدراك الحسن والقبح) انتهى كلامه رفع مقامه. راجع الحلقة الثالثة / ص 250.
وحاصل كلامه أنّ حكم العقل منه ما هو عمليّ وآخر نظريّ والأوّل ما يكون مستتبعاً لموقف عمليّ دون حاجة لتوسّط مقدّمة أخرى كإدراك حسن العدل الدّافع نحوه دون حاجة لإدراك مقدّمة أخرى بخلاف الثّاني إذ ليس للحكم العقليّ تأثير في مقام العمل إلاّ بتوسّط مقدّمة أخرى، كإدراك العقل وجود المولى تعالى، فإنَّ هذا الإدراك لا يستتبع موقفاً عمليّاً دون توسّط مقدّمة أخرى كإدراك حقّ المولويّة وأنَّ للمولى تعالى حقَّ الطاعة، وحينئذ يكون إدراك العقل لوجود المولى تعالى مستتبعاً لأثر عمليّ من فعل ما أمر وترك ما زجر.
لأنّه يقال: إنّ البيان المعروف للمراد من العقلين إنّما هو بيان للمُدرِك في حين أنّ بيان السّيد الصّدر(قدّس سرّه) إنّما هو بيان للمُدرَك فيكون بيانه (قدّس سرّه) لحكم العقل لا للعقل والكلام في البيان المعروف فيه لا في حكمه نعم لوحظ حكمه أعني إدراكه في بيانه .
اللهمّ إلا أن يقال : إنّه وإن كان الأوّل للمدرِك والثّاني للمدرَك إلّا أنّ الثّاني بيان آخر للمراد من العقلين وذلك لأنّ البيان المعروف إنّما هو بلحاظ حال المدرَك فبيان حال المدرَك كما في الثّاني بيان للعقلين من هذا الجانب لكون مبيّن الملحوظ مبيّناً لما يبيّنه ذلك الملحوظ .
وبعبارة أُخرى إنّ البيان المعروف للعقلين من كون العقل النّظريّ مدرِك ما ينبغي أن يعلم والعقل العمليّ مدرِك ما ينبغي أن يعمل أو لا إنّما هو بيان بلحاظ المدرَك من حيث كون المدرَك بالصّيغة السّابقة ذا انبغاء عمليّ أو نظريّ أي علميّ وعلى ذلك يكون بيان السّيّد الصّدر للمدرَك بياناً للمدرِك من حيث كونه بياناً للمدرَك .
أو يقال: ليس المراد من العقل العمليّ إلا إدراك ما يبغي أن يعمل وهو عين حكمه بانبغاء العمل فمرادهم من العقل أو حكمه مع الإضافة إلى العمل فيهما واحد فلا فرق في البين وكذا في النّظريّ حذو القذّة بالقذّة فيكون بيان الصدر(قدِّس سرُّه) للحكم العقليّ العمليّ بيان للعقل العمليّ لا غير وكذا بيانه الحكم العقليّ النظريّ بالنسبة للعقل النظريّ.
وربما يقال في بيان المراد من العقلين: إنّ الغاية التي يهدف إليها العقل حال التّفكير والإدراك هي المميّز بين العقلين فإن كانت العلم أو المعرفة فهو نظريّ وإن كانت العمل سميّ عمليّاً وعلى ذلك يكون المراد من العمليّ ما غايته العمل ومن النّظريّ ما غايته النّظر وهو أيضاً في كلمات الفلاسفة ففي كتاب النّفس لأرسطو ما نصّه (وبعبارة أخرى العقل العمليّ الذي يختلف عن العقل النظريّ بالغاية) انتهى. كتاب النّفس/ ص 124. وفي لاهوتيّة توما ما نصّه (لأنّ غاية العقل العمليّ العمل وغاية العقل النظريّ ملاحظة الحق) انتهى. الخلاصة اللاهوتية / ج 1/ ص210. وقال في موضع آخر منها ما نسبه إلى الفيلسوف على الإطلاق عن كتاب النّفس(العقل النّظريّ يغاير العمليّ بالغاية) انتهى. الخلاصة اللاهوتية / ج 2/ ص 353.
ولا أحسبه يريد بالمطلق إلا أرسطو كما هو ظاهر.
ولا يقال: إنَّ لازم ذلك دخول ما لهذا في ذاك والعكس فيما لو كانت غاية النّاظر فيما فيه انبغاء العمل بعثاً أو زجراً للعلم لا له أو كانت غايته العمل فيما لا يفيده فلو نظر النّاظر مثلاً في حسن العدل لا للعمل بل للعلم فهذا يعني كون العقل المدرِك لحسنه نظريّاً لا عمليّاً لكون الغاية العلم لا العمل ولا قائل بكون مدركها العقل النظريّ, ولو نظر في الملازمة بين حكم العقل والشّرع لغاية العمل كان من مدركات العقل العمليّ لكون الغاية العمل مع كونها من مدركات العقل النّظريّ كما هو بيّن.
لأنّه يقال: ليس المراد من الغاية غاية النّاظر بما هو كذلك بل بما هو عاقل يتحتّم كون غاية إدراكه المناسب للمناسب فيكون بما هو كذلك – بعد إدراكه للانبغاء في مقام العمل أي لدافعيّة ما أدركه في نفسه بعثاً أو زجراً أو إدراكه للانبغاء علماً أي لما هو كائن واقعاً – عالماً بكون الغاية من نظره فيما أفاد الانبغاء العمليّ العمل وفيما أفاد الانبغاء النظريّ النّظر أعني العلم فتكشف نتيجة الإدراك عن الغاية المتوخاة من نفس ذلك الإدراك حال ممارسة العقل له ولك أن تقول إنّ الغاية غاية مركوزة في نفس فعل تلك الدّراكة تنكشف بإدراك النّاظر للانبغائيّة العمليّة أو العلميّة.
وبعبارة أخرى لعل المراد من الغاية هنا ما هو كائن في نفس الأمر من اندفاع بعثيّ أو زجريّ عند الإدراك أو عدمه فيفيد الأوّل في مقام العمل قهراً فهو بما هو دفعيّ أي باعث إلى ما ينبغي العمل أوزاجر عمّا لا ينبغيه سواء اتّبعه النّاظر أو لا ,ولا يفيد الثّاني ذلك فيدخل فيما ينبغي العلم قطعاً إذ ليس في البين إلا ما ينبغي العلم وما ينبغي العمل أولا ينبغيه فإن خرج المدرَك من أحدهما فهو في الثّاني قطعاً.
ومع هذا لا إشكال لكون الغاية غاية واقعيّة ملحوظ فيها غاية العاقل بما هو كذلك ناظر فيما بنبغي النّظر له وفيما ينبغي العمل له ,لا بما هو ناظر مريد للنّظر ممّا ينبغي العمل أو العكس.
أو يقال: لعلّ المراد من الغاية الغاية الإفاضيّة فغاية مفيض العقل للعاقل غاية بلحاظ المُدرَك فالغاية بلحاظ ما يفيد انبغاء العمل أو لا هي الإفادة في مقام العمل فيسمّى العقل بلحاظ هذه الغاية عقلاً عمليّاً , وغايته بلحاظ ما يفيد انبغاء العلميّة هي الإفادة في مقام النّظر وإدراك حقائق الأشياء في الجملة فيسمّى بلحاظ هذه الغاية عقلاً نظريّاً.
نعم تلك الغاية من المفيض لا تنكشف للمفاض إليه إلا بعد إدراكه الشّيء فينسبه إلى العقل بلحاظ الفائدة الحاصلة فمع الانبغائيّة العمليّة في المدرَك يقال عقل أفيض للعمل وهو العقل العمليّ, أمّا مع الانبغائيّة النّظريّة في المدرَك يقال عقل أفيض للنّظر وإدراك الاشياء على حقائقها الواقعية بطريق ظاهرها المدرَك في الجملة وهو العقل النّظريّ وعلى ذلك لا دخل لغاية النّاظر- بما هو كذلك لا بما هو عاقل – في المنظور فيحلّ الإشكال.
وللكلام تتمّة هذا والله العالم وبه تنال المكارم.