الكلام في بعض ما يترتب على القول باتحاد الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية
ذهب أصحابنا الإمامية و كذا أهل الاعتزال إلى القول باتحاد الطلب الحقيقي مع الإرادة الحقيقة فالطلب عين الإرادة والعكس صحيح وخالف الأشاعرة
فقالوا بالمغايرة لوجوه عدة نقصر كلام هذه المشاركة للمصارعة في مسرح واحد منها حاصله:
لزوم تخلف المراد عن الإرادة أو صورية التكليف وبيانه بأن المولى حينما كلف العصاة من العباد مثلا بالطاعات إما أن تتعلق إرادته بها أو لا وعلى الأول يلزم تخلف المراد عن الإرادة فالله تعالى يريد الصلاة والعاصي لم يؤدِها مع فرض تعلق الإرادة بها وعلى الثاني يلزم انتفاء التكليف الجدي لكون الطلب منتفٍ عند انتفاء الإرادة لفرض الوحدة فيكون التكليف من قبيل الأوامر الاختبارية كأمر المولى عبده قاصدا اختباره من حيث الطاعة وعدمها دون نظر لنفس المأمور به.
وأُجيب عنه بتفكيك الإرادة إلى: تكوينية و تشريعية
و الأولى لا يتخلف عنها المراد (كن فيكون) و الثانية يمكن فيها ذلك أو قل يمكن تخلفها عن المراد على بيان في محله والإرادة المتعلقة بالطاعات هي الثانية دون الأولى وهي كافية في تصحيح الجدية.
وهو ـ أي هذا الجواب ـ يفي بالغرض لكنه يسوق الفكر إلى معترك آخر من أن المتحققات في صقع الوجود في النهاية معلولة للإرادة التكوينية إذ لا وجود لها دونها لفرض افتقارها لمفيض للبسة الوجود أو قل إن موجودات عالم الإمكان و منها الطاعات والمعاصي إما أن تتعلق بها الإرادة التكوينية أو لا والثاني باطل لكونها كائنة ولا تكون دونها والأول لازمه الإنقهار في الكينونة فالعاصي عاصي لتعلق الإرادة التكوينية بمعاصيه والعكس مثله.
وعلى ذلك يرد إشكالان:
أحدهما: انتفاء الاختيار عن فعل الإنسان فالمعاصي وعكسها خارجة عنه لكونها معلولة للإرادة التكوينية التي لا توجد بدونها.
ويمكن رده بما ينسب إلى جماعة من الفلاسفة كابن سينا والفارابي وابن رشد و تبعهم الآخوند من كون الإرادة التكوينية لا تتعلق بذات الفعل بما هو هو وإنما بما هو صادر عن المكلف بإرادة واختيار فالباري تعالى يريد تكوينا الطاعات الصادرة عن المكلف بإرادته واختياره وكذا الحال في المعاصي.
ثانيهما: عدم كفاية صدور الكفر عن الكافر أو قل العصيان عن العاصي في تصحيح عقابه لكون إرادة العبد تفتقر في وجودها إلى الإرادة التكوينية الإلهية في النهاية باعتبارها من موجودات عالم الامكان.
ورده العلماء بردود متعددة لا تخلو عن نظر في الجملة و نقصر الكلام في هذه المشاركة بذكر رد آخوند الكفاية عليه الرحمة دون غيره دفعا لملل المطالع على أمل التوفيق لذكر مشاركة ناظرة في ردود غيره من الأعلام
وحاصل كلامه إرجاع العقاب والثواب إلى باب اللوازم الذاتية لا الاستحقاق وعدمه تبعا لجملة من الفلاسفة منهم صاحب الأسفار
ـ تنزيها لساحة الحق تعالى عن انتقام الغضبان لإزالة غيظه والتشفي بمن يعذبه فذلك مستحيل في حقه جل شأنه ـ بمعنى أن العقاب من اللوازم الذاتية للكفر والعصيان الناشئة عن الإرادة السيئة الناشئة عن الشقاوة الذاتية وقد مثل له الشراح بالبذار الجيد وعكسه فغير الجيد يعطي نتاجا رديئا والعكس بالعكس وكذا الحال في عقاب الكفر والعصيان فالسعادة ذاتية و الشقاوة مثلها ولا وجاهة للاستعلام عن علتها ومن أين نشأت ـ وأشار إلى ذلك بقوله: ( قلم انجا رسيد سر بشكست) إي ما معناه إلى هنا وانكسر رأس القلم ـ فالذاتي لا يعلل فالله تعالى لم يخلق الذاتي ولكن أوجد ذيه و إليه تشير عبارة ابن سينا المشهورة (ما جعل الله المشمشة مشمشة بل أوجدها) ثم ذكر الآخوند في مقام تأييد دعواه هذه إشارة لسان الشارع إلى ذلك كنبوي السعادة في بطن الأم و الشقاوة فيها ورواية كون الناس كمعادن الذهب والفضة.
و فيه مواطن للنظر
منها: إن ظاهر كلامه (قدس سره) كون معنى الذاتي لا يعلل عدم الحاجة إلى علة و الصحيح في معنى كون الذاتي لا يعلل هو عدم حاجته إلى علة غير علة ذيه وهو ما يسمى بالجعل البسيط وكيف لا وهو من الممكنات التي لا بد لها من علة .
ومنها: قبح العقاب لكونه من قبيل قول الشاعر
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
إذ للعبد أن يحاجج المولى في خروج الشقاوة الذاتية عن اختياره وتبعيتها لخلق الذات من الخالق فموجد الذات موجد لذاتياتها.
ومنها: مسانخته لنظرية الجبر لكون كل ما يفعله الإنسان منتهٍ إلى السعادة أو الشقاوة الموجدتين من الخالق دون اختيار الإنسان تبعا لخلق ذاته.
ومنها: لغوية إرسال الرسل و سن الشرايع و تشريع الدعاء و طلب التوفيق والاستقامة على الشريعة لكون السعادة و الشقاوة قهرية موجودة بوجود ذات الإنسان المخلوقة للحق تعالى دون مدخل لإرادة العبد فيها.
وأما حديث السعادة في البطن و الشقاوة فيها و حديث المعدنية فلا يمكن الالتزام بظاهرهما المذكور لمواطن النظر المزبورة فضلا عن معارضة كثير من ظواهر الكتاب والسنة لها مما يحتم حملهما على خلاف ذلك الظهور فرارً من الجبر ورعاية لجمع المتعارضات كتوجيه حديث المعدنية بما عن بحار المجلسي من كونه ناظرا إلى الكمالات والصفات الإنسانية التي يتمايز بها البشر كتمايز المعادن من حيث الجودة وعدمها دون نظر إلى مسألة السعادة و الشقاوة على نحو الذاتية و حمل حديث سعادة البطن وشقاوتها على العلم بالمآل وما هو واقع بما عن الإمام الكاظم (عليه السلام) في مقام الجواب عن المراد منه إذ قال: (الشقي من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال الأشقياء والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال السعداء).
وعلى كل حال لو فرض عدم إمكان التوجيه فلا محيص من الأعراض عنهما دفعا للجبر ضروري البطلان.
ومما ذكر يظهر جليا عدم صلاح ظاهر رد الكفاية فينبغي القول بغيره وهو ما سنحاول بسطه في مشاركات قابلة والله الموفق للصواب وبه الهداية و السداد.